تخطي للذهاب إلى المحتوى

المعضلة الاجتماعيّة

ما هو الوجه الآخر لمنصّات التواصل؟ وماذا تفعل بنا خوارزميّاتها؟
26 ديسمبر 2025 بواسطة
علي العلوي

«إمّا أن تتفقد هاتفك الذكي عند ذهابك إلى الحمّام بعد استيقاظِك صباحًا، أو قبل حتّى أن تنهض إليه. ليس هناكَ خيارٌ آخر.»

كانت هذه الجملة المقتبسة من مقابلة مع «روجر مكنامي»، أحد المستثمرين الأوائل في منصّة فيسبوك، المُحفِّز لدعوتي عددًا من الأقارب إلى مشاهدة جماعيّة لـ«المعضلة الاجتماعيّة»، حيثُ استمعنا من خلال هذه الدراما الوثائقيّة، التي أنتجتها «نتفلكس» عام 2020، إلى شهادات صادمة من لسان المعنيّين مباشرة بالتطوير والاستثمار في الشركات التقنيّة الحديثة.

ماذا يقول العنوان؟

يعكس العنوان، «المعضلة الاجتماعيّة»، الموقف الذي يتخذه الفيلم إزاء منصّات التواصلِ الاجتماعي، وهو أنّه، كما يقول «تريستان هاريس»، رئيس مركز التكنولوجيا الإنسانيّة والموظّف السابق ضمن فريق أحد التطبيقات الخاصّة بخدمة «جيميل»: «ثمّة مشكلة، لكن لا أحد يعرف كيف يُوصفها». فمن جهة، حسَّنت منصّات التواصل الاجتماعي حياة البشر إلى الحدِّ الذي يصل إلى إنقاذ الأرواح في بعض الحالات، مثل تنظيم الحملات الإغاثيّة ونقل المعلومات العاجلة المهمّة مثلًا. لكن، في الجهة الأخرى، ثمّة خوارزميّات تدير واقعًا حالكًا نغفل الكثير من تفاصيله.

غرفة العمليّات

يجسِّد «المعضلة الاجتماعيّة» هذه الخوارزميّات وطبيعة عملها في هيئة غرفة عمليّات يعمل موظّفوها ليل نهار على اختيار ما يظهر لك كمستخدم من تنبيهات ومنشورات. ليكشف، من خلال هذه اللمسة الإبداعيّة، كيف تتنافس المنصّات على جذب انتباهك إلى أقصى حدٍّ ممكن، وكيف تعمل على تغيير سلوكك عبر عمليّة تسير ببطء شديد يمنعك من ملاحظتها. ومن خلال مقابلاتِه مع الخبراء، يؤكّد الفيلم أنّ هذين الأمرين، أي انتباهك وسلوكك، هما المُنتجان اللذان تبيعهما هذه المنصّات والشركات التقنيّة التي خلفها لعملائها… «فحين لا تدفع مقابل الحصول على المُنتج، تأكّد من أنّك نفسك المُنتج».

هل هي صفقة رابحة؟

في الوهلة الأولى، قد تبدو مقايضة قليل من الانتباه والتغيّر غير المحسوس في السلوك بما تقدّمُه هذه المنصّات من فوائد ومتعة صفقة رابحة. لكن للخبراءِ الذين يستنير الفيلم برأيِهم وجهة نظر مغايرة؛ فهم يقولون إنّ كلّ ما في هذه المنصّات مصمَّم ليجعلك تُدمنُها، وإنّ خوارزميّاتها ترصد وتُحلِّل أدقَّ تفاصيل تفاعلاتِك مع الهاتف، كي تفهمك أكثر ممّا تفهم نفسَك شخصيًّا، ولتُكوِّن عنك نموذجًا متكاملًا يعرف نقاط ضعفك ومُحفِّزاتِك، ويتوقّع سلوكياتِك، ويستخدمُ كلّ هذه المعرفة في صناعة شريط تغذية خاصّ بك، تختلفُ منشوراتُه عمّا يظهر في أشرطة التغذية الخاصّة بالآخرين، لأنّها منتقاةٌ بطريقةٍ تضمن أنّك ستقضي أقصى وقت ممكنٍ في تصفّحها. والأدهى أنّها تتلاعب بمشاعرِك بخفّة، لتدفعك نحو هذا السلوك أو ذاك، ولتجعل منك مُدمِنًا لا يختلف كثيرًا عن مُدمِن القمار أو مُدمِن المخدّرات، ولتدفع بك داخل فقاعة تحجب عنك كلَّ شيء عدا الحقائق والمعلومات والآراء والأفكار التي تريد هي أن تصل إليك. وبطبيعة الحال، لا تصبّ هذه الحقائق والمعلومات والآراء والأفكار إلّا في مصلحة من صنع هذه الخوارزميّات بالدرجة الأولى، ومصلحة زبائنها الذين يدفعون أموالًا طائلةً لشراء انتباهك وتغيير سلوكك.

كيف نتعاملُ مع هذه المعضلة؟

لا لشريط التغذية المُقترح من قِبَل الخوارزميّات

في ضوء هذا الواقع، وحتّى وإن استحال الاستغناء كليًّا عن وسائل التواصل الاجتماعي، هناك بعض الممارسات التي يستطيع المستخدم من خلالها تخفيف الآثار السلبيّة لمنصّات وسائل التواصل الاجتماعي. ومنها عدم تصفّح شريط التغذية المُقترح من قِبَل الخوارزميّات مهما بدا محتواه مُغريًا. وهذا أحد الأساليب التي قرّرتُ شخصيًّا اتّباعها بعد مشاهدة «المعضلة الاجتماعيّة». فمن خلال الاقتصار على قراءة أو مشاهدة منشورات من اخترت متابعته حصرًا، والابتعادِ عن المناشير المُقترحة من قِبَل الخوارزميّات، والتي ما كانت لتقترحها لولا أنّها ستتلاعب بي بصورة أو بأخرى، أستطيع خفض مستوى تحكّم هذه الخوارزميّات بي وبسلوكي، رغم أنّها ستبقى تحاول طرقَ باب انتباهي من خلال الإعلانات المدفوعة والتنبيهات وطرقِها الأخرى.

إلغاء التنبيهات وإبعاد الهاتف

ومن بين الممارسات التي يمكنُ اللجوء إليها لمواجهة خطر الخوارزميّات، إطفاء التنبيهاتِ أو تقليصها إلى أقلِّ قدرٍ ممكن، وكذلك حصر ظهورها في أوقات معيّنة، كي لا تُشتّتك عندما تكون منشغلًا بأعمالك اليوميّة. كما يُنصح بإبعاد الهاتف نفسه عن الأماكن التي يجدر بك أنْ تكون حاضرًا فيها بكامل حواسِّك، كطاولة الطعام وسرير النوم وحيثُ يوجد أحبّاؤُك الذين يتوقون لأن تنتبه لحضورهم.

الاقتصار على استخدام الحاسوب

وما هو أفضل من ذلك، استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الحاسوب حصرًا في أوقات معيّنة تخصّصُها لهذا الغرض، ما يعني حذف تطبيقات التواصل الاجتماعي أصلًا من هاتفك الجوّال، لتقطع عنها السبيل إلى سرقتك من الطبيعة ومن البشر، وما ينبغي فعله لتحقيق مصلحتك أنت، لا مصلحة شركات التقنية الكبرى وخوارزميّاتها وزبائنها.

الوعي بأنّ هناك عالمًا حقيقيًّا

وهذا يقودنا إلى أهميّة الإدراك بأنّ هناك حياةً حقيقيّة، دفعنا من جعلنا نُدمنُ الهاتف إلى أن ننساها. فبعد إدماننا على دوبامين وسائل التواصلِ الاجتماعي، لم نعد قادرين على الشعور بمتعة الطبيعة، وتصفّح الورق، وتبادل أطراف الحديث، والانشغالِ بالهوايات والحِرَف، وممارسة الرياضة، وغيرِ ذلك من متعِ الحياة. وقد يكون العمل على التخلّص من هذا الإدمان الردَّ الأمثل على تغوّل هذه المنصّات في حياتنا، والسبيل لمواجهة آثارِها السلبيّة التي يتّفق الخبراء المشاركون في «المعضلة الاجتماعيّة» على أنّها ربّما لم تكن متعمَّدة قبلَ أنْ تجد المنصّات نفسَها مُضطرّة لاعتماد نموذج عمل تجاري قائم على تسليع انتباه البشر وسلوكِهم.